تعتبر الصحة النفسية من أهمّ المجالات التي اهتمّ بها علم النفس والدراسات النفسية، كما إنّها المفهوم الأكثر إثارة لاهتمام الناس عامة وعلماء النفس والعلوم الانسانية على وجه الخصوص، فالإنسان بفطرته يحاول قدر الإمكان الوصول إلى الصحة النفسية السليمة، كما إنّه في العصر الحالي ازدادت مجالات علم النفس نظراً لما وصلنا إليه من تقدم فكري وتطور معرفي وتكنولوجي، وارتفاع مستوى طموحات الأفراد، والتفوُّق، والسعي للتقدم، وظهور النزاعات، وإثبات الذات في ظل التحديات التي يتعرض لها الأفراد، بالإضافة إلى ظهور الصراعات بأنواعها واختلاف الحضارات والثقافات، وكلّ ما يزيد من ثِقل العبء النفسي على الذات، فكان ذلك مؤشّراً هامّاً للسعي للوصول للصحة النفسية السليمة والمحافظة عليها في ظلّ مختلف الأحداث والظروف.
تعريف الصحة النفسية
يوجد تعريفات مختلفة للصحة النفسية نتيجة لاختلاف مدارس علم النفس وعلمائها، ولكن هناك تعريف يعتبر الأشمل وهو تعريف منظمة الصحة العالمية؛ حيثُ عرّفت الصحة النفسية على أنّها حالة من التعايش الصحي السليم في جميع النواحي الجسمية والنفسية والاجتماعية والخلو من العجز والمرض النفسي والجسمي.
مظاهر الصحة النفسية
ينعكس تحلّي الفرد بالصحة النفسية السليمة بشكل واضح على جميع تفاعلاته واستجاباته لمختلف المثيرات، وطريقة تعامله مع الحوادث والظروف غير المرغوب بها، ومن أبرز مظاهر ودلالات الصحة النفسية التالي:
1- التوافق الذاتي هو حالة من الاستقرار النفسي التي يكون فيها الفرد متوافقاً مع ذاته ومتكيّفاً مع إمكاناته وقدراته ومستواه وكفاءاته الذاتية، وإدراكه لمواطن الضعف والقوة التي يتمتع بها، وإمكانيّة الاستفادة منها واستثمارها بأكبر قدر ممكن، وبالتالي الرضى ومحبة الذات وتحقيق مبدأ الأمان الداخلي، بالإضافة إلى ضبط وتوجيه الاستجابات والانفعالات في المواقف المختلفة، والتقدير الذاتي المتوازن من دون تحقير ولا مبالغة.
2- التوافق الاجتماعي وهو قدرة الفرد على التكيُّف بشكل جيد مع المحيط الخارجي في جميع المواقف الاجتماعية المبنيّة على طرق التفاعل مع الآخرين لإقامة مختلف العلاقات في كافة البيئات الاجتماعية كالأسرة والعمل والمدرسة والجامعة وغيرها، فتكون استجابة الفرد الاجتماعية متكيّفة وذات مستوى عالٍ من الإيجابية والتآلف، وبذلك يكون راضياً عن أدائه الاجتماعي، ويكون الآخرون من حوله راضين عن التعامل معه من خلال التعاون وتبادل الاحترام والتسامح والثقة والمرونة.
3- النضج والاتّزان في الانفعالات حيث يتميّز الأفراد الذين يتمتّعون بالصحة النفسية بالاتزان الانفعالي، والثبوت الوجداني والعاطفي، والاستقرار في الميول والاتجاهات الاجتماعية والذاتية، والنضج في آلية الاستجابة لمختلف المثيرات؛ فيكون هناك حالة من التوازن بين شدّة المثير وشدة ما يترتب عليه من استجابة، بالإضافة إلى القدرة على مواجهة مختلف الظروف والضغوط الحياتية، وحل المشكلات ومعالجتها بشكل بنّاء وإيجابي، ومواجهة الإحباط والأزَمات الحادة بأقلّ قدر من الآثار النفسية السلبية، والقدرة على تحمل المسؤوليات الاجتماعية وتحمل مسؤولية النتائج المترتبة عن مختلف السلوكيات الذاتية.
4- النجاح في العمل ويكون ذلك عند التفوق في المجالات العملية والمهنية والنجاح في أداء المهام بشكل كامل، كما أنّ تقدير الفرد للمستوى العامّ له في القدرات والكفاءات الشخصية يُساعده في توظيف مهاراته في مكانها المناسب لتكون أكثر فاعليّة وكفاءة.
5- الإقبال على الحياة وحسن الخلق يكون الفرد محباً للحياة مقبلاً عليها مستمتعاً بوسائل السعادة والراحة المتاحة لديه، ويكون إيجابياً في أغلب الأوقات متفائلا بالخير متوقعاً له، كما يكون راضياً بكلّ ما هو متاح من قدرات ذاتية ومادية واجتماعية، والقدرة على التكيف والتأقلم في شتى المواقف والظروف التي من الممكن أن يتعرّض لها الفرد، والترحيب بالتجارب والخبرات الجديدة وحبّ الإقدام عليها، بالإضافة إلى تميُّزه بقدر عالٍ من الأخلاق الحسنة، والتحلّي بالصفات الحميدة، والبعد عن الفواحش، ومحبّة كلّ من حوله.
العوامل المؤثرة في الصحة النفسية
تتأثّر الصحة النفسية عند الأفراد بالعديد من العوامل النفسية الداخلية والبيئية الخارجية وذلك منذُ بداية نموّ الأفراد الجسمي والنفسي والاجتماعي، ومن أهمّ هذه العوامل التالي:
1- الأسرة: تُعتبر الأسرة أول بيئة للطفل وأكثر ما يؤثر عليه في المستقبل؛ حيثُ اتّفق العلماء على أنّ أول خمس سنوات من حياة الطفل هي الأساس المُكوّن لشخصيته أنماطه السلوكية واتجاهاته التي ستستمرّ معه في المراحل المتقدمة من العمر، فعندما تكون التنشئة الأسرية سليمة سوف ينتج أطفالاً وأفراداً أسوياء وسليمين متوافقين مع أنفسهم ومع من حولهم، أمّا في حال كانت التنشئة الأسريّة غير سليمة قد يؤدي ذلك إلى ظهور أفراد غير أسوياء، ويعانون من بعض السلوكيات غير التوافقيّة؛ نتيجة لاكتساب بعض الأنماط والقواعد غير المرغوب فيها من الأسرة؛ كالأنانية المفرطة، وعدم تحمل المسؤولية، وغيرها.
2- المدرسة: فالمدرسة هي المؤسسة أو الهيئة التعليمية الرسمية التي ينتقل إليها الطفل في عمر محدد، ويذهب الطفل إلى المدرسة وهو مزوّد بالمعايير والقيم والاتجاهات النفسية والاجتماعية الأساسية؛ حيثُ تعمل المدرسة على توسيع دائرة ما اكتسبه الطفل في المنزل بطريقة مدروسة ومنظمة، وفي المدرسة يتفاعل الطفل مع معلميه وأصدقائه في البيئة الصفّيّة التي تؤثّر بدورها إيجاباً وسلباً على الصحة النفسية له؛ فالبيئة المدرسية التي تتّسم بالنظام والانضباط مع الحرية والديمقراطية تُنشئ فرداً ذا صحة نفسية سليمة أكثر من الفرد الذي ينشأ في بيئة مدرسية تتّسم بالفوضى وعدم الاحترام والانضباط.