إنّ دراسة الحقائق الموضوعية تشكّل المادة الرئيسية والموضوع الأساسي لكافة العلوم وإنّ مهمة العلوم لا تقتصر عادة على تسجيل أو حصر هذه الحقائق والوقائع الموضوعية ،وإنّما تتجاوز ذلك إلى ضرورة تحليلها، ويعدّ التحليل العلمي من أهمّ أساليب الكشف عن محتوى وجوهر الحقائق والظواهر الطبيعية والاجتماعية وإدراك قوانين نشأتها وتطورها.
أساليب التحليل والتركيب العلمي
نجد في الطبيعة كما في المجتمع مجموعة متعددة ومتنوعة من الظواهر الطبيعية والاجتماعية ،وإنّ كل ظاهرة تشمل العديد من الصفات والعناصر المكونة لها ويمكن اتباع المراحل التالية عند استخدام أساليب التحليل العلمي:
1- ضرورة الأخذ نظرياً بمبدأ استقلالية الظاهرة إذ من الضروري والحالة هذه فصل الظاهرة موضوع البحث عن بقية الظواهر الأخرى ودراستها بصورة مستقلة.
2- تحليل الظاهرة إلى العناصر المكونة لها، إنّ أية ظاهرة تتألف من مجموعة من العناصر وإنّ إدراك هذه الظاهرة يستلزم أولاً معرفة عناصرها أي لابد من تجزئة الظاهرة أي تفتيت الكل إلى أجزاء ونجد عادةً أن هناك في كل ظاهرة عناصر أساسية وعناصر ثانوية ويقصد بالعناصر الأساسية تلك التي تلعب دوراً أساسياً في نشوء وتطور الظاهرة بينما يكون للعناصر الأخرى دور ثانوي.
3- إعادة تركيب عناصر الظاهرة إنّ البحث العلمي لا يتوقف عند مرحلة التحليل ولابدّ بعد تجزئة الظاهرة إلى عناصرها من إعادة توحيد وتركيب هذه العناصر حسب التسلسل الذي يحتلّ كل عنصر في سلم الأهمية، فعندما يقوم العالم الطبيعي بتحليل عناصر ظاهرة المطر يستنتج من هذا التحليل العناصر الأساسية والثانوية المركبة منها هذه الظاهرة وهذا الأسلوب هو ما ندعوه بأسلوب التركيب العلمي.
إنّ التحليل والتركيب يشكلان أسلوباً متكاملاً في البحث العلمي إذ لا يجوز كما هو واضح التوقف عند مرحلة التحليل دون استكمالها بمرحلة التركيب وبدون التكامل لا يمكن التوصل أصلاً إلى نتائج عملية كاملة، إلّا أن هناك فارقاً يجب ملاحظته بين أشكال البحث في الظواهر الطبيعية وبين أشكال البحث في الظواهر الاجتماعية.
إنّ دراسة الظواهر الطبيعية أكثر سهولة إذ أن عالم الفيزياء أو الكيمياء يستطيع أن يستخدم في عملية التحليل والتركيب وسائل مخبرية في دراسته لظاهرة طبيعية معينة بينما لا يستطيع الباحث الاجتماعي فعل ذلك ولذا لابدّ من أن يأخذ تحليل وتركيب الظاهرة الاقتصادية وغيرها من الظواهر الاجتماعية شكلاً تجريدياً.
التجريد العلمي للظواهر الاقتصادية
يفهم من التجريد عادةً أنّه الانسلاخ عن الواقع الموضوعي أو هو عبارة عن حالة تصوّر ذهني لا ارتباط بينها وبين الواقع المحدد والملموس إلّا أنّ هذا التفسير لفكرة التجريد يتعارض مع المفهوم الدقيق للتجريد العلمي.
إنّ التجريد العلمي هو طريقة من طرائق البحث العلمي يمكن استخدامها عند دراسة نظام متشابك من الظواهر فنحن نلاحظ أنّ النظام الاقتصادي يتألف من مجموعة من الظواهر والعلاقات الاقتصادية المتعددة الجوانب والأشكال، وهذه الظواهر والعلاقات تشكل في ترابطها الصورة المحددة والملموسة لهذا النظام بالرغم من أن بعضها يظهر للعيان وكأنّها ظواهر منفصلة عن بعضها البعض فنحن نرى السلعة والنقد أحياناً باعتبارهما ظاهرتين اقتصاديتين مستقلين علماً أنهما تشكلان فيما بينهما نظاماً مترابطاً من العلاقات السلعية النقدية.
إنّ المعرفة الملموسة والشامل لأيّ نظامٍ اقتصادي تستلزم الإحاطة بكلّ جوانبه وعناصره والإحاطة كذلك بالعلاقات القائمة بين هذه الجوانب والعناصر الاقتصادية المختلفة ولكن حتّى نتمكن من الوصول إلى المعرفة الشاملة والملموسة وجب عدم دراسة النظام الاقتصادي ككل ونظراً لصعوبة البحث في تناول هذا النظام دفعة واحدة فلا بدّ من اللجوء إلى التبسيط أي تحليل النظام إلى العناصر والأجزاء المكونة له والبحث في كل جزء على حدة ومن خلال تركيب المعارف الجزئية للظواهر المختلفة يمكن التوصل إلى المعرفة الشاملة حول النظام ككل، وعندما نقوم بتجريد ظاهرة اقتصادية عن بقية الظواهر فإنّ مثل هذا التجريد لا يعني بأي حال من الأحوال الانسلاخ عن الحقائق الموضوعية بقدر ما يقصد به أسلوب المعالجة العلمية لجوانب النظام الاقتصادي بصورة متدرّجة وانتقالية والتجريد بهذا المعنى يهدف إلى تسهيل البحث العلمي من أجل التوصل إلى نتائج عملية محددة.