الكثيرون منا عندما يولدون ويترعرعون في نطاق الأسرة تبدو لهم القضية كأنها عمل تلقائي وعندما يصبحون آباء يتركون أبناءهم لينشؤوا بشكل عشوائي وفق البيئة المحيطة.
ولكن القليلين منا هم من يعرفون أن مستقبل هذا الطفل أو ذاك ليس المستقبل المادي فقط كما يتبادر إلى الذهن ولكن المستقبل الصحي والعقلي أيضاً وهذا يعتمد اعتماداً تاماً على كيفية عمل الأسرة وعلاقة الوالدين بالطفل وعلاقتهما مع بعضهما خاصة في السنوات الأولى من حياة ذاك الطفل.
خطورة الأمر تكمن في أن هذا الطفل إن كان لديه أية أمراض عضوية فإن أعراض تلك الأمراض تظهر عليه ونستطيع أن نعالجها أو نتفهمها ولكن ضعيف الصحة العقلية لا تظهر عليه في كثير من الأوقات أعراض مرضه لكن نتائج ذلك المرض سواء كانت قوية أو ضعيفة ظاهرة أو مختفية تكون بالغة الخطورة عليه وعلى أسرته وعلى مجتمعه لذلك فإن العلماء يجتهدون لاكتشاف قوانين عمل الأسرة في المجتمع الإنساني وكيف يمكن للأسرة أن تساعد لإيجاد جيل يتمتع بصحة عقلية سليمة وحتى في داخل الأسرة الواحدة فإن الاختلاف في المعاملة بين طفل وآخر ينتج رجالاً ونساء مختلفين وكثيراً ما يحكم الشخص العادي على أختين أو أخوين بأنهما مختلفان.
دور الأسرة في تنشئة أطفال أصحاء نفسياً
في الأسرة الصغيرة التي انجذب طرفاها (الزوج والزوجة) إلى بعضهما لأسباب أهمها تشابه الخلفية الاجتماعية والنفسية يولد الطفل الجديد محكوماً عليه مسبقاً بخلفيات والديه، فإذا كان والداه قد حرما من الرعاية في صغرهما فإنهما لن يستطيعا أن يقدما له هذه الرعاية إنها حلقة لا تعوضها الخبرة في المجتمع بعد ذلك.
ولذلك نرى في الحياة أشخاصاً يتصرفون اجتماعياً بطريقة مختلفة عما نتوقعه لأن توقعاتنا هي خبرتنا وتصرفاتهم هي خبرتهم وعندما يشبّ الأطفال فإنهم يحملون خبرات أسرهم معهم هذه الخبرات محملة بما تحدده الأسرة منذ البداية حول ما هو الشعور الإيجابي وما هو الشعور السلبي فقبول السلطة أو الخروج عليها وقبول التعاون مع الآخرين أو الانغماس في الفردية والسيطرة على الشعور السلبي كالغضب أوالحسد أو الغيرة أو عدم السيطرة على مثل هذا الشعور كل ذلك يرضعه الطفل من أسرته في سنواته الأولى وإذا كان ثمة انحراف سلوكي للطفل في المستقبل فإنه يتكون تحت سمع الوالدين وبصرهما أو بسبب سلوكهما.
وبدون الانضباط الشخصي الذي يلعب الأب دوراً مهماً في تلقينه للطفل وتحديد خريطة ما هو مقبول وما هو ممنوع، لا يستطيع الطفل أن يكوّن علاقات جيدة مع السلطة في المجتمع عندما يكبر فالأوامر والنواهي الاجتماعية إن لم يتعرف عليها الطفل لا يستطيع أن يقبلها بعد ذلك حيث كانت طلباته مستجابة وكل ما يفعله مقبولاً فهو لا يقبل بعد ذلك أي تحديد لهذا السلوك وعند ذلك فإنه يقاوم أي سلطة تريد أن تحدّ من شهواته.
و الخطورة لا تكمن فقط هنا فعندما يوضع وهو رجل في موضع يحتاج فيه إلى ممارسة الانضباط سيجد ذلك صعباً فالسلطة مطلوبة من الوالدين تجاه الطفل والطفل الذي يعامل بهذه الطريقة يشبّ قادراً على اتخاذ القرار بعد الحوار حوله وعندما يتخذه يقوم بتطبيقه بجدية وهذا هو المطلوب في السلوك السوي.
والطفل أيضاً يحتاج إلى أخوة وأخوات وأصدقاء يلعب معهم ليس من أجل اللعب فقط وإنما من أجل أن يتعلم المشاركة، وضبط شعور الأنانية فالأطفال الذين لا يعرفون معنى ضبط هذا الشعور ومعنى المشاركة لا يفهمونها عندما يواجهون بها في المجتمع وهم كبار.
خطوات الاستقلال عن الأسرة عملية خطيرة في حياة الأطفال والمراهقين ودون اجتيازها بنجاح عن طريق فهم الوالدين لهذه الضرورة وتسهيلها أمام أطفالهم قد تنتج عنها مضاعفات نفسية خطيرة للأطفال وعندما لا يحصل الأطفال على تلك الفرصة بشكلها الطبيعي يتحولون إلى التعلق المرضي بوالديهم أو بأحدهما وعندما يتزوجون يحولون أزواجهم أو زوجاتهم إلى آباء وأمهات فالخلل في مرحلة النضج والاستقلال تلك يواكب الناشيء طول حياته ويخلق له المشكلات مع من يحتك بهم في المجتمع.
فالفشل في العبور من مرحلة إلى مرحلة في سن الطفولة مع أب وأم غير قادرين على هذه العملية الصغيرة عملية التنشئة الاجتماعية السليمة تورث الأطفال مصاعب نفسية قد لا تكون ظاهرة بل مختفية في نفوسهم.