يوجد لدى كل إنسان لغة ولكي يستطيع استخدامها كأداة للتفكير يجب أن يقوم بتحويلها إلى نظام داخلي للتفكير وبالتالي يجب على الفرد تشرّب اللغة والتماهي معها وامتلاك مفاتيحها.
وعندئذٍ يصبح الفرد قادراً على استخدام اللغة خارجياً للتخاطب والتحاور مع الآخرين وداخلياً في بناء أفكاره وآراءه واللغة بشقها الداخلي تعتبر أساساً للشق الخارجي وكلما كانت أكثر وضوحاً كان حواره مع المحيط واضحاً ومفهوماً.
مفهوم امتصاص الوظائف اللغوية والتماهي معها
لإيضاح فكرة امتصاص الوظائف اللغوية واحتوائها سنعرض تجربتين لعالمين من العلماء الروس متخصصين في علم النفس اللغوي يوضحان من خلال التجربتين العلاقة بين اللغة الداخلية والتعلّم.
أولى التجارب صممت لقياس ربط الطفل بين لغته الداخلية وتطبيق التعليمات الصادرة إليه على الظواهر التجريبية المعروضة عليه. وكانت أعمار الأطفال الذين أجريت عليهم التجربة تتراوح بين ثلاث إلى ثمان سنوات حيث زوِّد كل طفل بمصباحين كهربائيين.
أحدهما موضوع على يمين الطفل والثاني على يساره وطُلب إلى كل منهم أن يضيء المصباح الأيمن عندما يرى ضوءاً أحمراً وأن يضيء المصباح الأيسر عندما يرى ضوءاً أخضراً.
وكان الضوء الأحمر مسقط على أرضية رمادية اللون والضوء الأخضر مسقط على أرضية صفراء اللون في المراحل الأولى من التجربة كانت المهمة الموكلة إلى الطفل سهلة بدءاً من عمر الثالثة حتى الثامنة.
وفي المرحلة الثانية طلب إليهم أن ينسوا العلامات الحمراء والخضراء وأن يستجيبوا للأرضيات فقط فيضيؤوا الضوء الأيمن عند رؤية الأرضية الرمادية والأيسر عند رؤية الأرضية الصفراء.
في ضوء هذه الشروط الجديدة واجه الأطفال الصغار صعوبات أكبر من تلك التي واجهها الأطفال الأكبر سناً وبدوا عاجزين عن منع أنفسهم من الاستجابة للضوء الأحمر والأخضر لأن التبدّل الذي وقع في الخارج لم يوازه تبدّل مماثل في اللغة الداخلية للأطفال الصغار.
في حين أنّ الأطفال الأكبر سناً استطاعوا تحقيق ذلك التوازي أما التجربة الثانية صممت لتلافي تعريض الأطفال لمثل هذا العجز أو القصور عن الموازنة بين اللغة الداخلية والخارجية.
وأجريت على أطفال تتراوح أعمارهم بين 3 و8 سنوات أيضاً وهنا لوحظ أن الصعوبة التي واجهها الأطفال الأصغر سناً في التجربة الأولى تمثّلت في عجزهم أن يركبوا التعليمات الجديدة الصادرة إليهم تركيباً رمزياً.
ويقوموا بتحويلها إلى لغة داخلية ذات نمط يأذن لهم بتنظيم سلوكهم الخاص تنظيماً جديداً يتلاءم ومتطلبات الوضع التجريبي الجديد.
وعلى هذا الأساس تقرر إعادة إجراء التجربة ذاتها مع تغيير واحد هو الاستعاضة عن الضوء الأحمر والأخضر بصورة ظل لطائرتين ووجِّه الأطفال إلى أن الطائرات تستطيع الطيران في الأيام المشمسة “الأرضية الصفراء” ولا تستطيع الطائرات الطيران في الأيام الغائمة ” الأرضية الرمادية”.
فيضغط الطفل على المصباح المؤشر على قدرة الطائرة على الطيران أو المصباح المؤشر على عدم قدرتها على الطيران.
ومع هذا التغيير البسيط في التجربة أصبح أطفال السنة الثالثة يؤدون المهمة بالجودة نفسها التي كان يؤديها أطفال السنة الثامنة إذ تحقق التوافق بين اللغتين الداخلية والخارجية.
واستخلص الباحثان أن هاتين التجربتين على بساطتهما تثيران سؤالاً عميقاً عن العلاقة بين القدرة على عمل شيء ما أو التفكير فيه من جهة وبين القدرة على قوله ” التحدث به إلى النفس” من جهة أخرى.
وطريقة اللغة في المعرفة هي الوسيلة الأقوى التي نملكها لإبداع صياغات جديدة للعالم في عقولنا وهناك تجربة أخرى في مجال النشاط التصنيفي والمفهومي حيث دُرِّب قرد في المختبر على إطفاء شعلة شمعة بوساطة ابريق ماء يملؤه من الصنبور.
وعند إعادة الوضع على بحيرة أخذ هذا القرد يكرر سلسلة الأفعال نفسها مجازفاً بأخطر الألعاب البهلوانية لينتقل من طوافة إلى أخرى.
على الرغم من أنه كان يكفيه أن يغرف من ماء البحيرة جرعة ماء لإطفاء شعلة الشمعة وهو الماء نفسه الذي كان في البداية يرش نفسه به وهو يلعب.
فماء الصنبور الذي تعلّم منه القرد أن يطفئ به الشعلة والذي جعل الخدعة متعذرة وماء البحيرة الذي اختبره القرد وهو يرش نفسه به شكّلا حدثين متمايزين من أحداث البيئة ولم يحدث أي تعميم من حدث لآخر.
ومن أجل القيام بهذا التعميم يجب أن نستخرج من هذين الحدثين الخصائص المشتركة وتوحد كلمة ماء هذه العناصر المتمايزة. ولكن دماغ القرد غير قادر على الاستيعاب وغير مجهز للقيام بالنشاطات التصنيفية والمفهومية.
بينما العقل البشري المزود بالدماغ مهيأ لتنظيم عالمه وفقاً للنظام المفهومي الذي تمنحه إياه المجموعة اللغوية وتدرج الكلمات في تصنيف مفهومي معين يشكل ثمرة للنشاط التصنيفي المتراكم عبر التاريخ الحضاري للمجتمع.